استيقظَ سامسا وهو حشرة، واستيقظتُ بلا منزل




"استيقظ غريغور سامسا ذات صباح على أثر أحلام سادها الإضطراب، فوجد أنه قد تحول وهو في سريره إلى حشرة عملاقة"(المسخ) واستيقظتُ أنا فوجدت نفسي بلا منزل.
     أكتب هذه التدوينة بعد انقطاعٍ طويل -سنة وثلاثة أشهر- لأن حياتي طريقٌ مغلق فقدت فيه نفسي، ولأنّ بالكتابة وحدها أستطيع أن أكون. أكثر ما أعرفه عن نفسي أنني اتبع المدرسة الاعترافية في الكتابة confessional writing. بدأت هذه المدرسة في العشرينات تقريبًا بين الكُتّاب الأميريكيين ويُصادف أن كاتبتي المفضلة سيلڤيا پلاث -اللي أنا وياها أبراجنا عقرب فلا عجب أني أحبها!- تتبع هذه المدرسة.  روايتي الأولى: أزرق وينكمش كانت تتبع هذا الأسلوب الاعترافي ولكن بشكل غير كامل. لا أستطيع مداراة خجلي عندما يقرؤني العامة، ولكن إن كانت هذه هي المدرسة التي أحب فيجب عليّ التضحية بهذا الخجل من أجل البدء من جديد في عالم الكتابة. 
     عودةً للفكرة الأولى، أكتب هذه التدوينة بعد انقطاع طويل الانتقالات الأخيرة منذ 2019 إلى هذا الوقت في حياتي الشخصية كانت ولازالت حادّة، تُفضي بي إلى هاويةٍ سحيقة، ومجهولة النتائج والمصير. خطتي الحياتية رسمتها كالآتي: قبل الوصول لسن السادسة والعشرين يجب أن أنتهي من دراساتي العُليا/ أتزوج (هذه النقطة تُثير فيني الضحك، خصوصًا أنني شخص استحقاقه الذاتي متدني وتقريبًا يشكّ في جميع العلاقات، لكنني (حطيتها من ضمن خططي الخمسينية احتياط!)/ أكون قد بدأت بعملي الأكاديمي في التدريس/ بدأت بعملي الخاص في تحرير الكتب وتصميمها وترجمتها. والآن، لم يتبقّى على عيد ميلادي الرابع والعشرون إلا أسابيع قليلة، وخطتي بالكامل قد تدمّرت ولا أستطيع التصديق أنني سأستطيع ترميمها قبل الوصول لنهاية الوقت المُحدد لانتهاء خطتي. (ملاحظة: إن كنت تقرأ هذه التدوينة من المستقبل، فأتمنى أن أكون فعلًا قد استطعت ترميم حياتي، حتى أعود معك يا قارىء المستقبل إلى هذه التدوينة لكي أقول: والله مدري كيف عدّت دي الأيام، بس عدّيناها.) 
      تعرّفت على اقتباسي المفضل منذ 2017 في رواية الحياة في مكانٍ آخر للكاتب التشيكي ميلان كونديرا يصفُ فيها بطل الرواية ياروميل: ‏"كان يجري ويجري، لأنه كان يعلم أن الحياة في مكان آخر.." لكن هذا الصباح، بعد الجري الطويل الذي لم استرِح فيه، لم أجد الحياة في ذلك "المكان الآخر" وهي تنتظرني، بل وجدت نفسي، وحدي، أمام مرآة حمام كبيرة أبكي. ومريد البرغوثي في كتابه رأيتُ رام الله يقول إنه كان يشتاق إلى ماضيه في دير غسانة مثل اشتياق الطفل لِلُعبه العزيزة. ولكنه لما زار هذه البلدة بعد زمن طويل ووجد ماضيه هناك قال: "وددتُ أن أمسك بقوامه وأقذف به إلى الأمام، إلى أيامه التالية، إلى مستقبلٍ أحلى، وأقول له: أُركُضْ!". في هذه المرآة وجدت ماضيّ أمامي ولم أستطِع أن أمسك بقوامه فهو ينسلّ من بين أصابعي وثنايا عقلي باستمرار. هذا الصباح تغيّرت الكثير من الأمور، كلّ الأمور بصراحة، وجبَ عليّ الاعتراف بأنني: 
١- لا أعلم لماذا أُكمِل دراساتي العُليا وأنا لا أجد فيها فائدة
٢- بلا منزل، بدون رؤية أمي قرابة الأسبوعان
٣- أب مريض نفسيًا 
٤- في عملٍ لا أحبه
٥- نوبة اكتئاب حادّة للمرة الثانية في حياتي 
٦- بلا أصدقاء للحديث معهم -تقريبًا
٧-كاتبة فاشلة بنسبة ٧٢٪؜ بأفكار جيدة بنسبة ٨٦.٥٪؜
     في فوضى الأيام، والإعصار الذي لا ينتهي من المسؤوليات أو العمل أو الأولويات. فقدت حسّ الكتابة حتى تخشّبت أفكاري ونسيت كيف أحملُ القلم بين أصابع يدي اليسرى للرسم وبشكلٍ جزئي نسيت معنى أن أحمل كوب شاي Twinning بيدي اليُمنى وأمسك كتابًا بيدي الأخرى "وأقول للقمر: صورنا". ذلك أنني لا أجد معنى الحياة إلا في متعي الأثيرة هذه، وعندما تركت مُتعي تحت السرير حتى أجري خفيفةً بلا حِمل، وسريعةً بخطوات رشيقة نحو حياتي التي تنتظرني في مكان آخر… تعثَّرت. لا أشعر الآن أنني مُبدعة، لا أشعر بعاطفتي اتجاه شي ولا أشعر أن أي شيء بالمقابل يكنُّ لي أية عاطفة، لقد وصلتُ إلى نسختي الشخصية وهي في الحضيض. 
     بصراحة، ٦ من الأسباب المذكورة لم تدعوني للعودة للكتابة بهذه الشهيّة المفتوحة، السبب رقم واحد كان قشّتي التي قصمت ظهري أنا. وجودي في بيئة أكاديمية بحتة تتطلّب مني التدقيق المستمر في الهوامش والفواصل والابتعاد عن الكتابة الإبداعية، تعريضي المستمر للتوجّهات الحديثة الولادة في الأدب ودراستها عن قرب، فقدان حسّ الفكاهة بين الأكاديميين وغياب استعمال -الميمز- جعلاني أفكر مليًا، ربما نحتاج إلى أن يُقدَّم الفكر الثقافي والدراسات الثقافية بلباسٍ آخر. لذلك قررت أن ابدأ سلسلة في مدونتي الفوضوية -وسيتم العودة لها لاحقًا لتنظيمها- تخص طلاب الآداب، وتقريبًا كل من يريد أن يُصبِح مثقفًا عبر التعليم الذاتي، اللطيف، والمليان ميمز ونُكت!! ستكون التدوينات القادمة، مُمنهجة، بعيدة كل البُعد عن كونها كشكول نجود الخاص. سأعطي تدويناتي القادمة عنوان رئيسي:
Think like an ignorant, talk like an intellectual 
فكّر مثل الجاهل، وتحدّث مثل المثقف. 
    لا تأخذ الأمور بحدّة، لستَ جاهلًا. Ignorant تعني بشكل أدق: شخص يفتقر للمعرفة، وليس جاهل عمدًا. لكن ترجمتها بهذا الشكل راح يخرّب برستيج شكل العنوان! الفكرة من هذه التدوينات المُمنهجة، هو تقديم مجالات الثقافة بشكل أكثر عصرية أحاول فيها تقليل الفجوة بين الشخص الذي يطلب العلم والشخص الذي يقدّمه. حتى نكون كلنا في نفس الفلك نسبح. مواضيع عديدة، ليست كلها متعلقة بالمجالات الثقافية، بعضها ستكون: حلطمة قُرَّاء. في الكتابة التي تمثّلني أجد نفسي، ووسط هذا الضياع، هذا مشروعي الوحيدة الذي سأجد فيه نفسي… مُرَمَّمة ومنتعشة، وبالكامل أنا بلا نقصان وأمارس الشيء الوحيد الذي أحبه: نقل المعرفة والحلطمة المعرفية بأبسط وسيلة. وكما تُترجَم الصورة، فأنا أترجمها لي: Wait for me 

تعليقات

  1. فيّ من الأكتئاب الشيء المماثل وهذا عذري الوحيد لأي رتابةٍ ستقرأينها هنا، لا أعرف كيف لكنني استلذ بفكرة أن هذا المكان منكوبٍ بأكمله، مالذي يقودني لهذه الفكرة؟ عندما اجد نفسي احاول مواساة احدهم، عندما اجدني احاول مواساة نفسي..ولا افلح؛ ليس فقط لاني شخص لديه افكار جيدة وكتابة سيئة، إنما لأن هذا المكان منكوب وهكذا صُمم وهكذا سينتهي، وكل محاولاتنا للتعايش لا اعرف ان كانت ذكاء او سخرية، الامر الوحيد المؤكد في هذا الأعصار انه سينتهي..لكن كيف؟ صدقني لو اعرف هقولك انا ذات نفسي مش عارف

    ردحذف
  2. رائعة ومبدعة ماشاء الله يانجود، الله يزيدك. ياليت تكملي السلسلة ومايحصل شيء يسد نفسك.

    ردحذف
  3. خلال قراءتي للتدوينة وحديثك عن خطتك في الحياة حضرني مشهد من أحد أفلامي المفضلة وحوار الأب مع إبنه لما يقول أن الخطة التي لاتفشل ابداً عدم وجود واحدة أصلاً لإن الحياة لاتسير بهذا الشكل وشخصياً أجد أفضل أيامي هي التي أعيشها بدون تفكير أو تخطيط بالمستقبل أيام رغم رتابتها إلا إني أحس روحي خفيفة فيها

    ردحذف
  4. نجود.. أشعرُ أنكِ تشبهينني! عرفتكِ من الـtwitter وما عرفتُ لتواصلي معكِ طريقًا. أتمنى حقًا أن نكون أصدقاء. وأتمنى أكثر أن يخلق الرحمنُ لقلبكِ غيمة طمأنينة تُظلل يقينكِ كيلا يصله وابلُ التحطيم والتهشيم والقنوط.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة