تكرار آخر يوم دراسي كل يوم: اكتئاب ما بعد التخرّج


بعد سنوات من الدراسة والتعب والجهد المبذول، بعد الليالي الطويلة من السهر والهالات السوداء. تقدر وللمرة الأولى في إجازة الصيف الخاصة إنك تستمع بلا قيود، فعلًا! تسأل نفسك: ما في كتب تنتظرني عشان أرجع لها بداية السنة... وهذا أحلى إحساس بالحرية ممكن أي أحد يشعر به بعد ما يقارب 15 أو 16 سنة من الدراسة المتواصلة.
مكتبي أيام الدراسة
هذه الحالة وهذا التفكير لوحده قادر أنه ينقلك إلى حالة سعادة مطلقة، إلى حالة من الحرية تجعلك تشعر أنك تلبس أجنحة غير مرئية. وتتنفس الصعداء وتضع رأسك على المخدة بدون ما تحلم بمراقب الاختبار يجري وراك (حقيقي!). وكل تفكيرك ينصبّ على وظيفة أحلامك -في حال لسا ما وصلت لها- أو مرحلتك القادمة من الاستقرار الأسري أو التفكير بإكمال مشوار الدراسة إلى الماجستير والدكتوراه. لكن تخيّل ما الذي من الممكن أن يحدث للبعض بعد التخرّج والفرحة العارمة؟ ببساطة لا شيء ينتظرهم، أو انهم لم يحضّروا الأشياء مسبقًا كي تنتظرهم!
اكتئاب ما بعد التخرج الذي يصيب البعض مشكلة حقيقية، رغم أن الضوء مش مسلّط عليها وبرغم أنه لم يحذّرنا أحدٌ منه لكنه لا ينفي أنه هناك ينتظرك بعد ما تخلص فرحتك... ينتظرك زي أم العباية خلف ستارة غرفتك الضيقة أو تحت السرير زي الجني اللي دايمًا خفت يمسك ساقك على حين غرّة منك. في هذا المقال راح أحكّيكم حتّوتة وأقولكم عن أعراضه وكيف ممكن تسيطر عليه أو تتخطّاه فيه حال كنت محظوظ كفاية.
ملاحظة صغيرة: كتابتي لهذا المقال لا يعني أني تخطّيت الاكتئاب هذا، أو أكتب الآن بمزاج جيد، لكنها إحدى اللحظات الصغيرة التي يغزوك فيها أمل صغير بشأن القادم... ولذلك قررت ما أفوّت هذه الفرصة للكتابة.
ملاحظة أخرى: لو كنت تقرأ المقال الآن اسمع أغنية Preach- John Legond لأني اكتب تحت تأثيرها، وأتمنى هذا التأثير يوصل للشخص الذي يقرأ الآن.


حتّوتة:
قبل التخرج، كان يومي جدًا مشغول عادي جدًا أكون خارج المنزل لمدة 12 ساعة متواصلة بين دراسة وعمل وتدريب. قررت أتدرب في مكانين عشان أحسّن فرصي الوظيفية مستقبلًا.. ورتبت خططي لنهاية السنة. وحصل ما لم يكن في حسباني، وجا الحجر العالمي وفجأة بدون مبررات تخرّجت عن بُعد وبملل كبير وتم إنهاء عقدي مع شركتي لأنها خسرت وتوقّف تدريبي قبل أن يكتمل. وفجأة بعد هذه الأعاصير اليومية والطرق المزدحمة وجدتني عالقة في غرفتي أقوم بأمور إلهائية صغيرة وسخيفة وهي الأعمال المنزلية بلا توقف. الفكرة في الأعمال المنزلية مش بس إنها تستهلك طاقتك لا كمان تجعلك عالقة في حالة شحّ شديد من الإبداع. ورويدًا رويدًا فقدت رغبتي بالقراءة أو بمحاولة حتى الاستحمام على أبسط مثال وهذا الشيء قادني لمرحلة اكتئاب ما بعد التخرج. ونظرًا لأني عانيت من نوبات اكتئاب سابقة كان هذه المرة أشد شراسة وأكثر معنى. 
ماذا الآن؟!

أعراض اكتئاب ما بعد التخرّج:
اكتئاب ما بعد التخرج لا يختلف عن أعراض الاكتئاب العادي -آسفة لتدمير سقف توقعاتكم- الفكرة مش في أن الأعراض لا تختلف، المشكلة تكمن في إننا غالبًا ما يكون عندنا وعي كافي بأنفسنا لمسببات الاكتئاب هذا. والمسببات هي اللي بتفرق في إحساسنا بالاكتئاب وممكن لو عرفناها تحسّن فرصنا في تخطيه جزئيًا بينما الأعراض بتكون نفسها كل مرة.
1-الحافز الداخلي مفقود بعد سنوات الدراسة ومواعيد التسليم النهائية والجداول الصارمة وتعبك فيهم من أجل الحصول على شهادة تبيّض وجهك شخصيًا قبل أي أحد. الآن لا يوجد أي دافع وراء إكمال تعليمك من المنزل، ما أحد يجري وراك، ما في موعد تسليم نهائي وكل الدورات الأون لاين لك الحرية في تمطيط وقت انهائها مثل جبنة الموزاريلا كيفما شئت. وتشعر فجأة أنك لا ترغب في تعليم نفسك أكثر من ذلك لأن هذا التعليم عمره ما راح يكون مفيد لك وفعّال زي تعليم الجامعة.
2-فقدان القدرة على الاستمتاع بكل الأشياء اللي كنت مخطط تسويها بعد التخرج. بعضنا مجهّز قائمة خيالية من الكتب اللي يبغا يقرأها، بعضنا مجهّز اقتراحات أفلام ومسلسلات ودّه يخلصها ويشوفها باستمتاع وبدون الإحساس بتأنيب الضمير بانه هناك اختبار ينتظره ليستذكره. بعضنا مجهز رحلة للخارج للاستجمام ولقضاء الصيفية -هذه الفئة بالذات عرّفوني عليها بليز!- بعضنا ناوي يرجع يشتغل على موهبة نسيها مع ضغط الدراسة زي الرسم أو الحياكة أو العزف. وكل واحد وأهدافه اللي مخطط لها، يلاقي نفسه ما عنده الطاقة ولا القدرة على أنه يسويها لأنه يشعر بانعدام المعنى في هذا كله، ولأنه ما يستمتع فيها مثل ما توقّع أنه سيفعل وهو على مقاعد الدراسة.
3-الاختباء داخل لحافك والجلوس على السرير طوال اليوم وانت تشعر بالشفقة على نفسك، وأنت تشعر بالذنب بأنك تضيع وقتك بدون ما تسوي شي ولكن بنفس الوقت ما فيك طاقة حتى لتمشيط شعرك أو تغيير بيجامتك التي التصقت فيك منذ أيام.
4-اختلاف الروتين والمكان، وقت الجامعة والدراسة بشكل عام كل شيء حولك منظم. حتى لو أخذت مادة ب قبل مادة أ وخربطت المعلومات في عقلك راح يظل فيه مسار محدد يسحبك من يدّك ويرجّعك للروتين المتعارف عليه. بينما بعد الدراسة روتينك يختلف ومسؤولية تنظيمه تعود كليًا إليك. لو كنت بدون وظيفة بعد التخرج فكرة التنظيم بتكون أصعب قليلًا لأن ما في ساعات عمل محددة تنظم لك باقي يومك، لو كنت بوظيفة فهذا جيد ويعني أنه فيه نسبة كبيرة من الضياع تم حلّها.
وأعراض كثيرة زي السخط على العالم الذي لا تعرفه أو عدم تقديرك لذاتك أو الشعور بالذنب والبكاء، مثلًا على سنواتك الدراسية التي تشعر فجأة أنها ضاعت وتفكر هل لو غيّرت تخصصي باكون أكثر فعالية؟ هل لو فعلت كذا وكذا كان قدرت الآن أسوي كذا وكذا، والكثير من الأفكار التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

كيف ممكن تسيطر عليه:
ماراح أعطيكم أفكار خيالية غير قابلة للتطبيق، ماراح أقولكم أمشوا فالغابة للحصول على بعض الصفاء الذهني لترتيب نفسك للخمس سنوات قادمة! لأ! هذه الأشياء غير قابلة للتطبيق في بيئتنا. أبغا أكون واقعية ومتشائمة وأقلّكم أنكم حتى لو حاولتوا ممكن مو كل يوم تنجحوا، لكنكم راح تعيشوا على أمل أنه ممكن تتخطّى هذه العقبة. مارك مانسون كتب: "أنت لا تبني تكيّفك ومرونتك النفسية بإنك تشعر بشعور جيد طوال الوقت. أنت تبني مرونتك وتكيفك النفسي عبر التحسّن بشعورك السيء."
1-حاول تعمل روتين، وبما إنك مكتئب أصلًا ما أنصحك تسوي روتين خيالي وتتوقع من نفسك إنك تنتج نفس الإنتاجية وانت مو مكتئب لأنك بتكتشف إنك ما تقدر تسوي حتى أبسط الأشياء اللي كنت أول تسويها وهذا الشيء راح يخليك تحس بشعور مضاعف من الاكتئاب ولوم الذات.
أكل العنب حبّة حبّة، لذلك سوي روتين بسيط لكن حاول تخلي عقلك يستوعب أنه فيه شيء ينظمك. طبعًا فيه مرات بتستيقظ لتكتشف إنك كتلة من الفراغ والعدمية وتتساءل عن وجودك وطاقتك تتراجع بالسالب، وفيه أيام بتستيقظ وأنت تشعر أن الشمس أشرقت معك يوم ما فتحت عينك لذلك استغل هذه الأيام والشعور بالرضا اللي تشعره استعمله كوقود لأيامك السيئة. وتذكّر لو كلنا مشينا وراء رغباتنا ماراح نحقق شيء، طبعًا مانبغا نقوم من السرير الصباح وإحنا ما عندنا دوام أو جامعة، طبعًا ما نبغا نقوم نسوي رياضة ونتعرق ونجهز أكلنا وثم نستحم وبعدها نتثقف في مجال نحبه. لكن لو الأماني يتم تحقيقها بالأفعال مو بالرغبات لذلك: كافح وقاوم زيادة مرة كمان لأن ما عندك إلا هذا الخيار.
2-حاول تسوي رياضة، المشي والجري والرياضة بشكل عام تحسّن من المزاج وهذا الشيء معروف وصار تقريبًا كليشيه. ما أقولك سوي رياضة حديد وأشرب بروتين وشارك في بطولات الوزن الثقيل. لا. الفكرة هي أنك تعمل على تحريك جسمك يوميًا. وتذكر أنك الآن تمارس العادات التي ستصبحك بعد خمس أو عشرة سنوات من الآن. مكتئب وتشعر بالحاجة إنك تأكل الاكل العاطفي، مو مشكلة أسمح لنفسك تآكل كل شي مو كويس، اسمح لنفسك تجلس بدون حراك ليوم كاملة، لأسبوع إن شاء الله لو تبغا. لكن لازم توصل لمرحلة تقول فيها لنفسك: enough is enough! ووقتها لازم تتحرك وتعمل على اللحظة الراهنة لأنك ستصبحها بعد مدة من الزمن.
3-توقف عن مقارنة نفسك بمن حولك ممن تخرّجوا معك في نفس الدفعة، لا تفكر وتقول هذا بدأ مسيرته المهنية اللي أتمناها، لا تقول هذا بدأ مشروعه الخاص. نميل غالبًا إننا نحسد الأشخاص القريبين من دائرتنا مثل ما يقول آلان دي بوتون لأننا في بيئة واحدة متشابهة وتسأل نفسك طيب ليش أنا ماني مكانو؟ بينما نغفل عن حسد مثلًا الملكة إليزابيث لأنها تقع تمامًا خارج نطاق دائرة محيطنا. ركّز على نفسك، أنت تمشي في مسارك والآخرون يمشون في مسارهم ومجرد إنك متوقف عند نقطة ب لا يعني بأن الآخرين غير عالقون في حرفٍ ما! تطمّن، كلنا عالقون! وابدأ بالسعي والتوكّل وتمنّ للآخرين البركة.
4-حاول تتعلم شي جديد حتى لو كان هذا الشيء كيف تصنع مرطب شفاه في المنزل! لا يهم! المهم أن تتعلم وتواصل تعليمك بأي طريقة كانت بكل الوسائل المتاحة عندك. مشكلتنا كأبناء القرن الواحد والعشرين إننا متعودين على سهولة الوصول للمعلومات لدرجة أننا توقفنا حقًا عن السعي وراءها. أغلبنا مدللّين بزيادة ولا نقدّر نعمة التعليم حق قدرها. ولا تقول فاتني قطار التعليم حتى لو مضى على تخرّجك خمس سنوات وأنت لا تزال عالق نقطة البداية يقولك اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد. فيه حديث للرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه أن طلب العلم فريضة على كل مسلم. كل معلومة كل مهارة كل خبرة تغيّر وضعك بدرجة قليلة وتراكمها يغير حياتك بدرجة كبيرة. اتعلم شي جديد واقرأ، لو ما تحب القراءة أتعلم شي وأنت تتفرج. أي شي, بس حاول تستغل نفسك وإمكاناتك لأبعد مدى وصدقني كل مرة حتبهرك قدرتك على التأقلم حتى في أسوأ الظروف.
5-فيه حال ما وصلت لوظيفة أحلامك أبدأ واشتغل في وظائف لا تحبها. فكّر إن أي وظيفة هي شيء مؤقت ودفعة مالية ومعنوية لك وركّز في البحث على ما تصبو إليه نفسك وطموحاتك. هذا من شأنه يعطيك مال واللي بدوره راح يخليك تستقر نفسيًا بمعرفة أنه فيه دخل ثابت لك، راح ينظم لك يومك بدرجة قليلة، راح يشجعك بالتعلم الإضافي للوصول للوظيفة اللي تطمح لها لأن هذه الوظيفة منكّدة عليك عيشتك. عادي!

التخرّج حلمنا كلنا، لكن الحياة ما بعدها صعبة جدًا ومخيفة ومجهولة. كرّر كل مرة يومك الدراسي زمان بإنك تستيقظ حتى لو لم ترغب بذلك وتعلم شي أو كرر معلومة تعرفها حتى لو ما ترغب بذلك استحم ومارس أنشطتك حتى لو ما ترغب بهم كلهم. العشرينات مرحلة مفصلية في حيواتنا كلنا. تخرّج، مستقبل مهني، زواج واستقرار والكثير. أنت متوقع من نفسك والآخرين متوقعين منك بعد أشياء أكبر منك. لكن فكّر بنفسك... أقفل جوالك وابتعد عن كل الضوضاء وأرجع رتب نفسك من واحد وجديد وكل ما تطيح أرجع رتب نفسك من واحد وجديد... وحتطيح كمان وحترجع ترتب نفسك من واحد جديد لا شيء متيقّنة منه في الحياة مثل هذا المفهوم لأن هذه غريزة في الإنسان، أنه يبقى وأنه يحقق حاجاته الفسيولوجية والنفسية.
لذلك حاول تكرر أيامك الدراسية، إذا مو اليوم بكرا وتذكّر أن يومك الدراسي ينتظرك مثلما انتظرك آخر اختبار على أعتاب التخرج.

تعليقات

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. شكرا نجودا على اشياء تكتبيها تساعدنا في اننا نتخطى المراحل الصعبة في حياتنا 🌸

    ردحذف
  3. أبدعتي
    أسلوب جميل مع أني لم أكمل حتى النهاية
    لكن قرأت معظمه
    أشجعك

    ردحذف
  4. مضت ٣ سنوات وأنا أعيش هذا الشعور
    تخرجت من الثانوية وحسب لأرى المجهول أمامي
    إلى يومي هذا لا أزال أهيم في تلك الدائرة

    ردحذف
  5. المسألة بالنسبة لي بسيطه
    فحين نتخرج و نرى أحلامنا تناثرت بعيدا فيجب أن نعلم ان طريقًا اخر قدر لنا سلوكه وبما أننا خرجنا للتو من دوامة الدوام الرسمي فنقرر التريث قليلا و الاستجمام الفكري(الكسل) و تمضي الأيام و السنون و لا زلنا كما نحن لا ذهبنا نجمع احلامنا المتناثرة ولا حتى خلقنا غيرها
    كل ما نحتاجه زقّه نفسية (دفعة معنوية) كي ننهض من سباتنا هذا

    ردحذف
  6. جو الأغنية وكلماتك كلماتك كلماااااتك ! ايش هذا! قمة الدقة وقمة البساطة أهنيك.. مريت في كل الي قلتيه وكنت افكر ان ماراح يصادفني مرة ثانية! بس مثل ما قلتي هذي غريزة فينا مع كل مرحلة ننهيها ونبدأ جديدة مو بس التخرج. ولو كنا ما نكتئب أو ما نحس بالقرف ما كان هذا مثل الشيء الخانق الي يخلينا نقاوم ونلقط أنفاسنا ونقوم.. جد أشوفه رحمه لنا.. نقاط الانطفاء رحمة والله.. شكرًا من صماصيم قلبي.. شكرًا لأنك عطيتينا من وقتك وطاقتك.. شكرًا لأنك إنسانه بمعنى الكلمة.

    ردحذف
  7. ممتنة نجود .. قاعدة أعيش هذا التخبط في تخصصي الأدب الإنجليزي بعد ما صار عن بعد .. شكرا لكلامك .. كأنه لسان حالي .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة