كابوس اليقظة.



رأيتها مؤخرًا تقف أمام النافذة الكبيرة داخل المكتبة العامّة, كانت النافذة متّسخة للدرجة التي تمنعها من رؤية ما بالخارج. سمعتها تهمس للنافذة بتروٍ: لا يجب عليك أن تكوني متّسخة مثلي, كل ما أريده منك هو صورة نظيفة للعالم الذي أريد أن أعرفه ويعرفني.. كلا! أنا  بالعشرين من عمري وأعرف كيف يعمل العالم, أو على الأقل أعرف أنه مُصمّمٌ على تدميرنا. كانت تبدو منطويةً على نفسها مثل حرف الواو. رحتُ أتطلّع إلى صورتها وهي تقف بثباتٍ قاتل وأنا أحاول التعرف إلى اللغة عبرها.
رأيتها أول مرة عندما كانت في السابعة عشر من عمرها عندما دخلت الحمام الصغير المتعرّق والنتن الرائحة مسرعةً بفستانها الزهري القصير وهي ترتدي سترة مصنوعة من الكشمير. كانت تبدو كالدمى الرخيصة بأحمر شفاهها اللامع, كانت تبدو مراهقة جدًا بالبثور التي تغطّي وجهها, كانت تبدو آدمية بشكل مفرط بضعفها الإنساني البحت الذي تجلّى بشكل تام. تأملتها وهي تدخل مسرعة وتغلق الباب بهدوءٍ شديد مريب, أذكر أنها وضعت أصبعها السبابة في فمها وأخذت تعضّه وبشدة.. كانت تأمل لو تستطيع أن ينفذ الألم بهذه الطريقة فقد باتَ ألمها ينخرها حتى التلاشي. لكن أيًا من آلامها لم يختفي أبدًا. ألمها أكبر منها , يغطيها ويدفئها حتى تنام. رفعت فستانها  لتكشف عن فخذين نحيلين, جلست على أرضية الحمام بجلدها مباشرة محاولة تفادي فكرة أن يتّسخ فستانها الزهري. أضحك. هي تحافظ على نظافة الأشياء من حولها بينما تتصيّر بذاتها شيئًا متّسخًا. لا أذكر أن سبق لها أن جلست بهذا الهدوء والسكون إلا على تلك الارضية القذرة في الحمام الصغير عندما كانت في السابعة عشرة. وقفت أنظر إليها بشفقة, أنظر إلى تفاصيلها الكثيرة.. ملمّع الشفاه والفستان الزهري المنفوش وشعرها القصير الملتف حول نفسه بخجل, كانت تبدو منهارةً على نفسها وبائسة مثل حرف الشين.
رأيتها مراتٍ عدة تجلس وحيدة, وحيدة جدًا حتى بات طنين الذباب يثير حنقها ويزعجها وقد يدفعها أحيانًا إلى البكاء, وحيدة جدًا حتى نسيت أن الظلام يتبعه ضوء غرفتها الأبيض, بات الضوء يزعجها ويدفعها لحكّ عينيها باستمرار. زوايا الغرفة الحادة أصبحت تجرحها داخلًا في مكمن روحها, وأخذت تنتحب وأنا أنظر إليها. رأيتها للمرة الأولى ممددةً و وحيدة مثل حرف الألف في بداية الكلمة. نهضت فجأة كما تنهض اللغة بمشاعرنا وتنقلها من أماكنها القصيّة والسحيقة إلى أوراقنا البيضاء, وذهبت إلى المرآة التي وضعتها لها وأخذت تصرخ:
-        لقد أحالوني إلى شخصية مريضة, شخصية معتوهة! وكل ما أستطيع رؤيته الآن هو صورة للفتاة التي لو استطعت أن أدهسها بقدمي كما ندهس الجداجد لفعلت, لفعلتها بدون تردد. إنني مجرد صورة للفتاة التي أكرهها. للفتاة التي أحالوني إليها. أو ربما أنا من أحلت نفسي إليها؟ لا يبدو أنني سأعرف يومًا.

استيقظت على شعور ما يشبه الفزع.
 الساعة تشير إلى الرابعة وخمسة وعشرون دقيقة. ومثل كائن مؤقت كقنبلة على وشك الانفجار, قفزت برعب إلى ورقتي. آمر نفسي: أكتبي. لكنني لا أكتب أي شيء. أمسك رأسي من مكمن الصدغين.
 فكّري!
 أفكر أن هذا الرأس الصغير الذي لا يكفيه هذا العالم. هذا العالم الذي محشورةٌ أنا فيه رغمًا عني يعذّبني. بنهاراته ولياليه وشتاءاته وصيفه ورياحه ورطوبته. كلهم لا يغيروا فيّ شيئًا. كلا, لن يغيرني العالم ولن أغيره, لا قدرة ولا سطوة لنا على الآخر. أنني كائن مؤقت وضعيف, أعرف حدودي وأعرف إلى أي مدى أستطيع القفز عاليًا. حدودي سخيفة جدًا مثل نكتة بالية تخرج من أفواه أصحابها وهم يحادثون أنفسهم في المرآة.
 أقول بتضرّع: أرزقني الإيمان, إيمان الوجود, إيمان المحبة, إيماني الذي أعرفه ويعرفني حق المعرفة مثل صديق حميم. حميمٌ أحبه ويحبني.

استيقظت من استيقاظي بشعور يشبه العدم.
 إنه الإحساس اليومي والجرعة المثالية لشخص مدمن التفكير مثلي! استيقظت خائفة إذ أنني لم أعد أستطيع التفريق بين الحلم واليقظة. أهمس بإرهاق تامّ, أهمس لنفسي بحنان مثلما كانت تهمس لي أمي في الصغر:
-       أرزقني, أرزقني الإيمان والمعرفة.
أرجوكِ استيقظي.
 أستيقظ يا أمي لأكتشف أن استيقاظي ما هو إلا مرحلة انتقالية بسيطة من كابوس الحلم إلى كابوس الواقع.
موعد الاستيقاظ: 2:59 صباحًا

تعليقات

المشاركات الشائعة